أثر المجتمع في تكوين شخصية البردوني الساخرة :
لا یستطیع الإنسان العیش بمفرده ، فھو یحتاج إلى المجتمع الذي یتفاعل فیه سلبا،
وإیجابا یقول أرسطو" إن الإنسان كائن اجتماعي لا یعیش إلا في مجتمعات .
والإنسان اجتماعي لحاجته . لأن الإنسان یولد وھو أكثر الكائنات الحیة ضعفا . فھو
لا یستطیع تلبیة احتیاجاتھ ولا توفیر الحمایة لنفسھ ویحتاج لمدة تطول كثیرا بالنسبة
للمدة التي یحتاجھا غیره من الكائنات الولیدة حتى یشتد ساعده ویستقل عن الاعتماد
على غیره"(١)
إذا كان الإنسان محتاجاَ إلى المجتمع كمؤثر في بناء شخصیته ، فإن ّ
طبیعة أفراد المجتمع ، وطرق عیشھم تؤثر في شخصیة الفرد ، وفي تعامله مع
الأحداث ، وبناء طرائق التفكیر
ھذه النشأة التي نشأها البردوني كان لھا دور في بناء شخصیة البردّوني الساخرة فیما
بعد ، فقد سار في طرح فكره ، وأدبه على النمط الذي تعود علیه وعایشه منذ نعومة
أظفاره . سخریة یجسد فیھا روح المعاناة بقلب ضاحك باك . فعندما یدخل ذلك اللص
المسكین داره بحثا عن غنیمة ، یشكره البردوني لأنه لم یزعجه بالدخول .
شكرا دخـــلت بلا إثارهْ ****** وبلا طفـــــور أو غرارهْ
لما أغرت خـــنقت في ****** رجلیك ضوضاء الإغارهْ
لم تسلب الطین السكون ****ولم تُرع ْ نوم الحـــــجارهْ
كالطیف جئت بلا خطى **** وبلا صــدى وبلا إشارهْ (٢)
(١) مدخل إلى مبادئ التربیة ـ ص ٩
(٢) ديوان البردوني ج ١ ص ٩٧
&&&&&&&&&&
ھذه الروح الساخرة التي كان البردّوني یبثها في كثیر من قصائده أتت ، دلیلا على أن
ھذه الروح التي تشبع بھا البردّوني منذ صغره ، إنما ھي تجربة حیاة تعود البردّوني
أن یعیشھا في تفاصیل حیاته ، مثله كمثل أي ذماري ،یقابلك بتلك الروح المرحة التي
تبحث عن الحق في صورة ابتسامة، لأن الأدب لایستطیع مھما كان فردیا أو ذاتیا ، ومھما بلغت درجات الوجدان والعاطفة،ومھما حاول أن یكون تعبیرا خالصا عن
تجربة الأدیب وروحه، ومزاجه ، لا یستطیع بأي حال من الأحوال أن یعیش منزویا ،
أو بعیدا عن الحیاة .
٢ ـ أثر التراث :
نشأ البردّ وني في أحضان التراث العربي، فنھل من نبع أبي تمام ،وصاحب المتنبي
في بحثه عن المُلك ، وعاش تجربة المعري بكل تفاصیلھا،وجالس أبا نواس وصافاه ،
فكل شاعر عربي لا بد أنه تأثر بالشعراء العرب في العصور السابقة ،فیبني بینه
وبینھم جسورا ً من العلاقات الثقافیة ، یستطیع من خلالھا أن یعیش في جلودھم ،
ویرى بأبصارھم ، وأن یحس بقلوبھم لیشعر معھم بما كانوا یشعرون به ، ومن ھنا
یلتقط الضوء ، وبعد ذلك یترك نفسه لوجدانه ھو ، ولعصره ھو ، ولظروفه ھو ،
وكیفما وجھته موھبته ، فلیكتب ، ولكن ، بعد أن یكون قد زود نفسه بزاد انطوى في
اللا ّوعي وساعده على إنشاء شعر جدید ، وفي الوقت نفسه یَكون شعرا عربیّا یكون
فصلا من فصول دیوان الشعر العربي
لذلك وجدنا البردّوني یتأثر بما قرأه
خلال مسیرته العلمیة ویقاسم كل الثائرین حیاتھم ، وھمومھم ، فلاقت تلك
الشخصیات الثائرة بذرة ثوریة في نفس البردّوني ، فسقتھا بماء السخریة .لتنتج شعرا
رافضا لواقع ألیم عاشه المجتمع ،رافضا كل طرق الاستبداد التي عانى منھا الفرد
البسیط في ظل تسلط المسئول ، والفرد القوي . الأمر الذي جعل البردّوني یستخدم
تلك الرموز التاریخیة في نقض ذلك الواقع المریر الذي یعیشه
&&&&&&&&&
فتلك الصرخة التي أطلقھا البردوني مخاطبا أبا تمام ، إنما ھي صرخة ألم ،
وضجر بذلك الواقع المریر ، فشخصیة أبي تمام العربیة التي انفجرت بعزة الإسلام
وبشھامة العربي مؤیدة للمعتصم في دك حصون الروم ، تنظر بعین الحسرة إلى واقع
العروبة الیوم ، في مفارقات بین الحالین .
ماذا جرى .. یا أبا تمام تسألني ؟ *****عفوا سأروي .. ولا تسأل .. وما السبب
یدمى السؤال حیاء حین نسأله ***** كیف احتفت بالعدى حیفا أو النــــــــقب
من ذا یلبي ؟ أما إصرار معتصم ***** كلا وأخزى من الأفشین ما صــــــــلبوا
ألیوم عادت علوج الروم فاتحة ***** وموطن العرب المسلوب والســــــــلب
ما ذا فعلنا ؟ غضبنا كالرجال ولم ****** نصدق .. وقد صـدق التنجیم والكـــتب(١)
تلك المفارقات التي تنقل المتلقي من ذلك الواقع المریر الذي یعیشه الشاعر ، ویعیشه
معه المتلقي إلى تلك الحیاة العزیزة التي عاشھا أبو تمام .
لیذوب بعد ذلك البردّوني في تجربة ذاتیة مع أبي تمام یبثه فیھا أحزانه وآلامه ، لأنه
وجد جسور التشابه تمتد بین ضفتیھما .
حبیب ھذا صداك الیوم أنشـــــــــــده***** لكن لماذا ترى وجھي وتكتــــــئب
ماذا أتعجب من شیبي على صغري ؟ ***** إني ولدت عجوزا .. كیف تعتجب ؟
والیوم أذوي وطیش الفن یعزفـــني ***** والأربعون على خدّيّ تلـــــــــتھب
كذا إذا ابیض إیناع الحــــــیاة على ***** وجه الأدیب أضاء الفـــكر والأدب (٢)
لیخرج متفائلا بغد أفضل لأن مع اشتداد الأزمات یأتي الفرج .
ألا ترى یا أبا تمام بارقنا ***** ( إن السماء ترجى حین تحتجب ) (٣)
في ھذه القصیدة صرح البردّ وني بشخصیته ، وأخذ یحاورھا ، ویناقشھا ، لیرسم تلك
الصورة العكسیة بین ماضى الأمة وحاضرھا ، مع ذلك الأمل الذي یترجى أن یعود
لأن شدة تأزمت ولا بد من یوم یكون فیه الفرج .
(١
)دیوان البردوني ج١ ص ٦٢٤
(٢
)نفس المرجع السابق ص ٦٢٨
(٣
)نفس المرجع السابق ص ٦٢٩