المفارقة :
استخدم البردّوني ھذا الأسلوب في تمرده على
الظلم ، وسخریته من واقع امته المعاش ، وضربه بید من حدید على كل وضع مزیف
یحتاج إلى تصحیح ، حیاة تجتمع فیھا الجراحات .
أبكي فتبتسم الجراح من البــــــــكا ***** فكأنھا في كل جـــــــــارحة فم
یا لابتسام الجــرح كم أبكي وكم ****** ینساب فوق شفاھه الحمراء دم
أبدا اسیر على الجراح وأنتــــــھي ***** حیث ابتدأت فأین مني المــختم (١)
تلك الجراحات التي مزقت قلبه و جعلته یعیش مع ھذه الحیاة التي تفتخر بالذل
والھوان .
ونھضت والدّنیا كــــــما***** كانت تفاخر بالصَــغَار
وتھاوت الدّنیا الــــــــتي ****** خلق افتناني وابتكاري
فوددت لو ألقى كذاب ال **** لیل صدقا في النــھار (٢)
فبدل أن تفتخر الدّنیا بالعز ّ والمعالي ، وجدھا البردّوني تفتخر بالصَغَار ، والذل ، ھذه
الحیاة التي یتمتع بالحیاة فیھا من كانت طباعه طباع الوحوش، والحیات .
وسألتھا : ما الأرض ؟ قالت إنھا **** فلوات أوحاش وروض صلال
إن كنت محتالا قطفت ثمـــــــارھا ***** أولا : فإنك فرصـــــة المحتال (٣)
ھذه المفارقة الساخرة من الواقع المعاش ، فالحیاة غابة لا مجال فیھا للضعیف ، فإمّا
أن تكون وحشا مفترسا وتأكل كل من یقابلك، وإما أنك ستكون فریسة سائغة للآكلین .
ھذه النظریة التي تعب البردّوني في فك شفرات حلھا ، كانت تؤرقه صباح مساء ، فلا
یجد لھا حلا .
ما كان أذكى مرشــــــــــدا**** وأبر طلعـــــــته الز ّكــــیه
كان ابتسامات الحــــــزیـن **** وفرحة النفــس الشجیّه
عیناه من شغل الرشــــــاد "***** وكله من عبـــــــــــــقریّه
إن لم یكن في الأنبیـــــــاء **** فروحه المـــــــــــثلى نبیّه
قتلته في الوادي اللصوص ***** فغاب كالشــــمس البھیّه
(١)دیوان البردوني ص١١٢
(٢)دیوان البردوني ص٢١٥
دیوان البردوني ص٢٢٤
&&&&&&&
كان ابن عمّي یزدریــــــه ***** فلا یضــــــیق من الزریّه
ومن ابن عمّي ؟ جـــــاھل **فظ ّ كلیل الجــــــــــــاھلیّه
یرنو إلینا .. مثـــــــــــــلما**** یرنو العقور إلى الضحیّه
نعرى ، ویسبح في النقود*** وفي الثیاب القیــــــصریّه
ونذوب من حُرق الظماء***** وعنده الكــــــأس الرّویّه
والكرم في بســـــــــــتانه**** یلد العـــــــــناقید الجنیّه(١)
لقد صور البردّوني الواقع كما ھو ، فالذكي المتوقد ، لا نصیب له في ھذه الحیاة ،
والجاھل الفظ ّ المتغطرس یملك كل مقومات الحیاة الكریمة ، إنھا مفارقة عجیبة
یعیشھا البردّوني ویصورھا لنا في ھذا المشھد لأبناء العمومة ، ثم یزید من سخریته
اللاذعة عندما یجعل ھذا الجاھل لا یكتفي بما لدیه ، وإنما ینظر إلیھما نظر الضحیّة
التي یجب أن یستمتع بھا أیضا ، وتكتمل فصول ھذه المفارقة في طریقة موت الذكي
نھبا من اللصوص فأي شيء سیجدونه عند ھذا الفقیر الذي لا یملك إلا ذكاءه ، بینما
یعیش ھذا الغني حیاته بكل سلام ورغد عیش ، وكأنه یقول لنا یموت صاحب العقل
من أجل عقله ، ویعیش الجاھل بجھله .
حاول
البردّوني بمفارقاته أن یوقظ ذلك المارد النائم ، لعله في یوم من الأیام یرى ھذه الأمة
وقد عادت لسابق عز ّھا ، ومجدھا .
تغنى البردّوني بمفارقاته على صدر جراحات الأمة ، عسى أن یجد بلسما شافیا یداوي
به الجراحات ، قاد بمفارقاته أمته إلى طریق یأمل فیه أن یوصلھا إلى نبع عزة صافٍ
لا یكدره الخنوع والخضوع .
(١)دیوان البردوني ص٢٣٤
&&&&&&&
٥- الصورة الساخرة ( الكاریكاتور ) .
إذاَ عرفنا أن الصورة الشعریة ھي أداة للتعبیر عن الذات ، وعن المجتمع بشكل عام ،
نجد أن البردّوني أخذ بھذا الاتجاه فجاءت صوره تعبیرا عمّا بداخله ، وتنفیسا عن
معاناة ذلك المجتمع ،وبما أن البحث متجه إلى أسالیب السخریّة عند البردّوني ، فإنه
لن یخوض في غمار الصورة الشعریة في التجربة البردّونیة بشكل عام ، وإنما
سیحاول أن یقف مع الصورة الشعریة الساخرة ، أو ما یسمى بالكاركاتور ، وھي
ككلّ الصور التي یحاول من خلالھا الكاتب أن یرسم لنا أبعادا جدیدة للصورة تختلف
عن أبعادھا المعتادة ، وتحول الكلام من مجرد ھجاء عادي إلى رسم كاریكاتوري
ساخر
، فھذا الاتجاه قد عبّر عنه العقاد في وصفه لھجاء ابن الرومي قائلا : على
لصاحبنا فنّا واحدا من الھجاء لا نرتاب في أنه كان یختاره ویكثر منه ... ونعني به
فنّ التّصویر الھزليّ ... فھو مطبوع علیه
، فالصورة التي یبحث عنھا البردّوني ھي
صورة تحاول أن تعري المجتمع الفاسد ، لكنھا في نفس الوقت تحاول أن ترسم شیئا
من الضحكة ، على وجه البؤس الذي تولد من ظلم المجتمع ، فھو یحاول أن یرسم
تلك الصورة التي تختّل فیھا المقاییس ، ونكاد لا نتمثّلھا في ذھننا حتّى ننفجر مقھقھین
، إننا عندما نبحث عن مثل ھذه الصور لا نبحث عن إضحاك البردّوني
لمجتمعه ، وإنما نبحث عن ذلك السوط الساخر ، الذي ألھب البردّوني به جسد أمته
كي تصحو من سباتھا العمیق ، نبحث عن تلك البسمة المتلبسة بعمق الدمعة الغائرة
في جوف المعاناة من تلك المآسي التي یسبح فیھا مجتمع یرزح تحت الأثقال . فعندما
یرسم لنا البردّوني بقلمه صورة تلك البیوت في لیله الخاص ، تأتي مشبعة بنزف الألم
ھذي البیوت الجاثمـــــــــات إزائي**** لیل من الحرمان والإدجـــــاء
من للبیوت الھادمات كأنــــــــــــھا***** فوق الحیاة مقابر الأحیـــــــــاء
تغفو على حلم الرغیف ولم تجــــد***** إلا خیالا منه في الإغــــــــــفاء
وتضم أشباح الجیاع كأنــــــــــــھا**** سجن یضم جوانح السّجــــــناء
وتغیب في الصمت الكئیب كأنــھا****** كھف وراء الكون والأضــــواء
&&&&&&&